آخر الأخبار

الثلاثاء، 15 مارس 2016

مِصر أُم الدنيا.. لماذا؟” ... بقلم بسام الشماع



“نبتا بلايا” وابتكار دائرة التقويم (الحلقة الأولى)

مِصر هى نافذة المعرفة، وبوابة العلم، ومشكاة الحضارة، ومولد الكتابة، وموثقة الأحداث.

هى مِصر البحث والحرف، العالِم والقرطاس، طموح الأحلام التى حولها أهلها إلى حقيقة، وهى جذور النبتة العصماء، وهى سابقة الأجيال، الصابرة على الأحمال، وهى الحضن الدافىء مهما كانت برودة اللقاء وقسوة الأعداء، وهى اللهب الحارق لكل جيش سارق، تدثرنا من برد الشتاء بخيوط شمسها الذهبية، وهى مهد الحضارات التى أطلت بالبهاء فجعلت شعبها هو البسام.

ما أحوجنا الآن لاستدعاء ذكرى التاريخ والاستماع إلى صدى تلك الحضارة التى علمت العالم، لعلنا بهذا الفعل نستطيع أن نشحذ الهمم ونستحضر الحقائق التاريخية التى جعلت من مِصر بحق “أم الدنيا”.

ظلموها عندما نعتوها بحضارة السبعة آلاف عام، فهى فى حقيقة الأمر أعمق من هذا، فجذور حضارتها ترجع إلى أقدم من هذا، ولقد اختلفت مع الذين يرددون أن التاريخ يكتب ويدرس منذ إبتكار الكتابة واستخدامها.

وهناك من الإبتكارات ما سبق هذا التاريخ، فمثلًا، تم إكتشاف أول إبتكار لدراسة ومعرفة الإتجاهات وتحركات الأجرام السماوية والتقويم فى الجنوب العظيم، فى منطقة “نبتا بلايا” التي تقع على بعد 100 كم غرب منطقة أبو سمبل بالنوبة المصرية التليدة، كما تم إكتشاف بقايا هامة جدا لحضارة متطورة علميا قبل بناء الأهرامات وتشييد المسلات.

هل تعلم عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة أين أو ما هي “نبتا بلايا”؟، كثير من الناس سوف يتعجب من هذا الاسم، بل من الممكن أن يتساءل البعض، ما هي علاقة هذا الاسم الغريب بالآثار الموجودة على أرض مصر.

“نبتا بلايا”، هو مكان أثري غاية في الأهمية، يشغل تفكير كثيرٍ من علماء الآثار المصريين والأجانب، كما يعتقد البعض، أنه بداية انطلاق الحضارة المصرية القديمة ذات المجتمع المنظم، والتفكير المبتكر المثمر، والتأثير على حضارات العالم، ولكي نتعرف أكثر على هذا الاسم وأثره وآثاره، دعوني أصطحبكم في رحلة عبر أبواب الزمن نخترق فيها أزمنة قديمة، ولكن هذه الرحلة ليست إلى عالم المصريين القدماء (الفراعنة) ولكن قبلهم بكثير.

أصل الاسـم: ”نبتـا” هو اسم جبل يقع بجوار المكان الأثري الذي نحن بصدد شرحه هنا، أما عن “بلايا”، فهو لفظ من أصل إسباني يعني شاطئ، وهو حوض أو بحيرة تصل بقاعها الذي يسمى “السرير” إلى البر أو الشط، وهو أيضاً اسم يشرح حوض صرف مغلق يحتفظ بالماء الذي يملؤه عن طريق المطر، لكنه لا يسمح لهذه المياه بالتصريف والصب عن طريق قنوات أو أنهار أو محيطات.

تقع هذه المنطقة الأثرية القديمة والتليدة على بعد حوالي 800 كم جنوب القاهرة، و100 كم غرب أبو سمبل بالصحراء النوبية، و30 كم شمال الحدود المِصرية السودانية، وأصبح الوصول إليها أسهل وأيسر من ذي بدء، لوجودها على جانب طريق يصل إلى العوينات (موقع مصري يقع في نقطة التقاء حدود مصر والسودان وليبيا تقريبًا).

كانت الأمطار تسقط على الأراضي الأفريقية بكميات متفاوتة وفي أزمنة مختلفة، ولكن منذ حوالي 12 ألف عام بدأت الأمطار الصيفية لأفريقيا المدارية تتجه إلى الشمال الشرقي للقارة، مكونةً بحيرات مائية بجانب الجبال، ومنها بحيرة “نبتا”، التي يعتبرها العالمان “فيفيان ديفيز” و”رينيه فريدمان” من أكبر بحيرات هذه المنطقة الأفريقية.

ساعدت مياه تلك البحيرة الشاسعة على نمو الأشجار والنباتات والحشائش، وبالتالي تجمع فيها أنواع عديدة من الحيوانات التي تتغذى على هذه الحشائش، مثل الغزال والظبي والزراف.

وعاش الإنسان الأول هنا في أزمنة متعاقبة، تكثر أعداده عندما تتوافر المياه، وتقل بل ويهجرها إذا اختفت هذه البحيرة لقلة الأمطار المتفاوتة الغزارة، أو تبخرت، أو لأي عوامل طبيعية أخرى.

العلماء يؤكدون أن “نبتا بلايا” كانت مأهولة بالسكان منذ 12 ألف عام إلى 7300 عام مضت، ويعتقد بعضهم أن الحياة البشرية استمرت هنا حتى منذ 4.800 عام، وقد ترك هؤلاء الأوائل آثاراً لهم شُيدت ما بين 6,500 إلى 4,500 عام مضت.

والتنقيب في هذا المكان القديم أوضح أن هذا المجتمع قد نجح منذ 8000 عام في إدارة شئون الحياة والمجتمع بطريقة منظمة ودقيقة جدًا، لدرجة تدعو للذهول، ففي عام 1973 وحتى 1977 ميلادية تمت دراسة وتحليل وتأريخ “نبتا بلايا” عن طريق العالم المجتهد “فريد ويندورف” و”رومولد شليد” وأعضاء بعثتهم.

اكتشفت البعثة خمسة عشر منزل على الأقل، بيضاوية الشكل، مشيدة من البوص والخوص والعصي، وحفرًا لتخزين الغلال والفاكهة، وثلاثة أبيار كانوا قد حُضروا للاستفادة من المياه في حالة عدم وجود مياه في البحيرة.

أعتقد أن هذه المجموعة من المصريين الأوائل قد انتقلوا إلى وادي النيل شرقاً لكي يكونوا قريبين من مصدر المياه الذي لا ينقطع، ألا وهو نهر النيل، وذلك عندما قلت الأمطار في هذه البقعة من مصر فتحولت إلى صحراء جرداء لا حياة فيها ولا ماء، وذلك لأن عدم وجود المياه معناه عدم نمو الحشائش، مما يسبب هجرة الحيوانات جنوبا  للبحث عن مصدر للطعام، كما يؤدي إلى انحدار واختفاء الزراعة، والأهم، أن من المعروف عن الإنسان- مهما قويت درجة احتماله الجسمانية- لا يستطيع أن يعيش بدون مياه لمدة طويلة.

لكنهم هجروا “نبتا بلايا” تاركين ورائهم حضارة جديرة بالاحترام والتقدير والدراسة، بل والآثار التليدة، منها ذلك الأثر الذي ربما لا يكون هرماً أو معبداً شاهقاً، ولكنه أثر يعتبر من أهم آثار الحضارات البشرية جمعاء، وهو “دائرة التقويم”.

نراكم في الحلقة الثانية.. “مصر الفرعونية ليست فرعونية”

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق